عندما
زرت هيروشيما عام 1967، رأيت ظلًا مطبوعًا على درج من الجرانيت لإنسان كان جالسًا،
ساقاه متباعدتان، ظهره منحنٍ، ويداه إلى جانبيه، كما لو كان ينتظر افتتاح البنك.
كان ذلك المشهد العجيب أثرًا للانفجار النووي الذي أحدثته القنبلة الأميركية
المسقطة على المدينة؛ إذ أطلقت في أجزاء من الثانية حرارة وضوءًا هائلين أحرقت
أسطح الجرانيت، باستثناء المواضع التي حجبتها أجسام صلبة. وفي حالة ذلك الظل، حجب
جسدُ امرأة أشعةَ الانفجار، فتبخّر جسدها، وبقي ظلها باقيا على الحجر، فيما عُرف
لاحقًا بـظل هيروشيما.
يحزن
العالم هذه الأيام على مرور الذكرى الثمانين لجريمة الولايات المتحدة، أثناء الحرب
العالمية الثانية، حين ألقت قنبلتين نوويتين على اليابان في آب 1945، في وقت أفرجت
فيه عن وثائق سرية تكشف جوانب هذه المأساة المروّعة. وقد أثبتت تلك الوثائق، بما
لا يدع مجالًا للشك، أن الهدف لم يكن كما روّجت واشنطن: إجبار اليابان على
الاستسلام أو حماية الأرواح وفرض السلام بالقوة.
بلغ
عدد ضحايا القنبلتين النوويتين على هيروشيما وناكازاكي نحو 210 آلاف إنسان، أي ما
يقارب نصف سكان الأولى وثلث سكان الثانية. وفي خضم هذه المأساة، كتب الرئيس
الأميركي آنذاك، هاري ترومان، رسالة إلى زوجته قبل إلقاء القنبلتين، مهلّلًا:
تخيّلي، ستنتهي الحرب قبل موعدها! وتخيّلي عدد الأطفال الذين لن يُقتلوا!
وفي
13 أيلول 1945، كذبت صحيفة نيويورك تايمز حين خرجت بعنوان رئيسي يروّج للرواية
الرسمية، زاعمةً أن القنبلة الذرية لم تخلف أي إشعاعات نووية. لكن صحفيًا
بريطانيًا تحدّى هذه المزاعم، فتوجّه إلى هيروشيما، وجلس بآلته الكاتبة وسط مرضى
السرطان وبين أنقاض الدمار أعلن أن الناس هناك يعانون ما أسماه «الطاعون الذري».
كان ثمن تحديه باهظًا: طُرد من عمله، وسُحبت بطاقته الصحفية، وتعرض لهجوم واسع.
وبعد
الإفراج عن الوثائق، تبيّن أن اليابان كانت تسعى إلى الاستسلام قبل القصف النووي،
وأن الإدارة الأميركية تجاهلت رسائل تثبت ذلك، منها رسالة اعترضتها واشنطن للسفير
الألماني في طوكيو، كشف فيها أن اليابان مستعدة للاستسلام حتى بشروط قاسية. كما
كشفت الوثائق أن وزير الحرب الأميركي آنذاك، هنري ستيمسون، أبلغ ترومان خشيته من
أن يدمّر سلاح الجو اليابان بالكامل، فلا تترك القنبلة النووية مجالًا لإظهار
قوتها. كان الهدف الحقيقي هو ترهيب الاتحاد السوفييتي، كما صرّح بذلك صراحةً مدير
مشروع مانهاتن، المشروع السري لتطوير السلاح النووي.
ويؤكد
ذلك أن الولايات المتحدة، بعد المأساة اليابانية، أقدمت عام 1954 على تنفيذ أكبر
تجربة نووية في التاريخ قرب جزر مارشال، حيث انتشرت الإشعاعات لمئات الكيلومترات،
ووصلت إلى جزر مأهولة مثل روتفلاب وأوتريك. تساقطت الإشعاعات على شكل مسحوق أبيض
ظنه السكان ثلجًا، فمسحوا به رؤوسهم، لتبدأ مأساة تساقط الشعر والإصابة بالحروق
والتشوهات والأمراض السرطانية. وفي أرشيف الولايات المتحدة وُصف هؤلاء الضحايا
بأنهم: الهمج المطيعون.
واليوم،
وبعد ثمانين عامًا، تتكرر المأساة؛ فكما كذب ترومان آنذاك مبررًا استخدام القوة
بذَرائع إنسانية وسياسية لإخفاء أهدافه الحقيقية، يفعل مجرم الحرب نتن ياهو الشيء
نفسه، مبررًا احتلاله لغزة بذريعة فرض السلام بالقوة، وإنقاذ الأسرى، وتخليص الناس
من حكم حماس، وإجبارها على العودة إلى طاولة المفاوضات، وإقامة حكم مدني في غزة.
لكن الوقائع على الأرض تكشف أن الهدف، منذ اليوم الأول، هو طرد سكان غزة من أرضهم،
وتوجيه رسالة ردع إلى كل خصوم الكيان.
ما
أشبه اليوم بالأمس!