لم يعد خافياً على احد أن الأردن شكّل رقماً صعباً في معادلة الإقليم، ليس بحجم موارده أو قدراته الاقتصادية، بل بما يملكه من رصيد سياسي ودبلوماسي اكتسبه عبر عقود من الحضور الفاعل والمتزن في القضايا العربية، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية والأزمة السورية. فوسط إقليم يموج بالتوترات، استطاعت المملكة أن تحافظ على استقرارها الداخلي، في وقت عصفت فيه رياح العنف والانقسام بدول مجاورة.
غزة.. الموقف الثابت والدور المؤثر
منذ اندلاع الحرب على غزة، برز الصوت الأردني كأحد أكثر الأصوات العربية وضوحاً وثباتاً. فجلالة الملك عبد الله الثاني كان من أوائل من حذّروا من تداعيات استمرار العدوان الإسرائيلي، مؤكداً في مختلف المنابر الدولية أن الحل يكمن في العودة إلى جذور الأزمة، أي الاحتلال وإنهاؤه.
وفي لحظة بدا فيها المشهد الإقليمي متردداً، مضى الأردن في بلورة موقف صريح يدعم حق الشعب الفلسطيني في الحرية والكرامة، ويواجه محاولات فرض واقع جديد على الأرض. هذا الدور عزّز مكانة الأردن كطرف لا يمكن تجاوزه في أي معادلة تتعلق بالقضية الفلسطينية.
سوريا.. معادلة الأمن والحل السياسي
أما في الملف السوري، فقد واجه الأردن تحدياً مزدوجاً: تأمين حدوده الشمالية في ظل تنامي تهديدات تهريب المخدرات والسلاح، وفي الوقت ذاته الدفع نحو حل سياسي يعيد لسوريا عافيتها.
من هنا جاءت المبادرات الأردنية التي طرحت منذ عامين، والتي سعت إلى "النهج العربي" في التعاطي مع الأزمة، بحيث يتم إدماج سوريا تدريجياً في محيطها العربي مقابل خطوات إصلاحية على الأرض. وعلى الرغم من تعقيدات المشهد، فإن الأردن أظهر قدرة على إدارة ملف بالغ الحساسية دون أن يسمح بانزلاقه إلى الداخل.
الملك.. دبلوماسية نشطة واتصالات متواصلة
لا يمكن قراءة الدور الأردني دون التوقف عند الجهد الشخصي الكبير الذي يبذله جلالة الملك عبد الله الثاني، عبر شبكة واسعة من الاتصالات الإقليمية والدولية. فمنذ بداية الأزمة في غزة، تحرك جلالته على أعلى المستويات، سواء عبر اتصالات مباشرة مع قادة الدول الكبرى، أو من خلال مشاركاته في القمم والاجتماعات الدولية، لنقل صوت الأردن الواضح بضرورة وقف الحرب وحماية المدنيين.
كما حرص جلالته على التنسيق المستمر مع الدول العربية المؤثرة، في إطار بناء موقف جماعي يضغط باتجاه حل سياسي عادل وشامل. وعلى صعيد الملف السوري، جاءت اتصالات الملك لتدعم مبادرات الأردن وتحشد التأييد لها، سواء عربياً أو دولياً، في مسعى لتخفيف تبعات الأزمة على المملكة والإقليم.
هذا الحراك الدبلوماسي المتواصل عزّز صورة الأردن كدولة فاعلة، قادرة على التواصل مع مختلف الأطراف، والحفاظ في الوقت ذاته على استقلالية قرارها السياسي.
توازن الداخل والخارج
اللافت أن الأردن تمكن من خوض هذه الاشتباكات السياسية والدبلوماسية دون أن يفقد استقراره الداخلي. ففي وقت تتعرض فيه المنطقة لأزمات اقتصادية واجتماعية خانقة، استطاع صانع القرار الأردني أن يحافظ على خيط التوازن: خطاب خارجي حازم ومؤثر، وخط داخلي يعزز الثقة بين الدولة والمجتمع.
هذا التوازن لم يأتِ من فراغ، بل من رؤية استراتيجية يقودها جلالة الملك، تقوم على إدراك دقيق لمكانة الأردن الجيوسياسية، وقدرته على أن يكون جسراً للحوار وحائط صد أمام الفوضى الإقليمية.
أبعاد استراتيجية
الأمن الوطني: أولى الأردن أولوية قصوى لحماية حدوده واستقرار داخله، ونجح في تحويل موقعه الجغرافي الحساس من عبء إلى ورقة قوة.
الشرعية السياسية: ما زال الموقف الأردني يحظى بمصداقية واسعة دولياً، لأنه لا ينطلق من حسابات ضيقة بل من ثوابت قومية وإنسانية.
القيادة الهاشمية: خبرة جلالة الملك عبد الله الثاني في إدارة الأزمات عززت مكانة الأردن كمرجع إقليمي، خصوصاً في ملفات فلسطين وسوريا والعراق.
الدبلوماسية النشطة: الانفتاح الأردني على مختلف القوى الدولية والإقليمية أتاح له مساحة مناورة واسعة، حافظت على مصالحه وسط اصطفافات حادة.
اليوم يمكن القول إن الأردن لا يكتفي بالنجاة من أزمات الإقليم، بل يقدّم نموذجاً سياسياً مختلفاً، عنوانه التوازن والاعتدال. ففي حين انزلقت دول كثيرة إلى الفوضى أو الاستقطاب الحاد، أظهر الأردن أن الحنكة السياسية والدبلوماسية الفاعلة قادرة على حماية الداخل وتعزيز الدور الخارجي في آن واحد.
إن الاتصالات المستمرة لجلالة الملك وتحركاته الدبلوماسية المكثفة لم تضع الأردن فقط في موقع "المؤثر"، بل حولته إلى مرجع في كيفية إدارة الأزمات بحكمة. إنها تجربة سياسية تستحق أن تُقرأ باعتبارها درساً استراتيجياً في بناء دور إقليمي فاعل مع الحفاظ على استقرار داخلي، وسط منطقة لم تعرف الهدوء منذ عقود.