في مشهدٍ دمويٍ يتجاوز حدود العقل، تشبه المستعمرة الصهيونية اليوم ثوراً
هائجاً في حلبة مصارعة، مترنّحاً بين الضربات، ينزف من كل جهة، لكنه لا يكفّ عن
مهاجمة كل من حوله: الجمهور والمروضين، الأصدقاء والأعداء، بلا تفريق ولا تمييز.
هو ثورٌ فقد اتزانه، لا يحترم حدود ساحته، ولا يضع وزناً لساحات الآخرين، يضرب كل
شيء في طريقه، حتى من سعوا بصدق إلى تهدئته وإنقاذه من نفسه
لقد تجاوز هذا الكيان الهجين كل قواعد القانون الدولي، وكل الأعراف
الإنسانية، وفقد أي التزام بأبسط معايير السياسة الإقليمية. صار النصر – بأي ثمن –
هو هاجسه الأوحد، حتى وإن كان ذلك النصر وهميًا، يعلو فوق جثث الأبرياء، ويُبنى
على أنقاض المدن والبيوت، فيما ينزف جسده السياسي والعسكري والأخلاقي بلا توقف
وها هو يوجّه الضربة الأخيرة ـ أو ما يتوهم أنها ضربة أخيرة ـ ضد الوفد
الفلسطيني المفاوض، في خيانة صريحة لكل المساعي الدبلوماسية، ولكل الجهود المبذولة
من أجل الوصول إلى تهدئة حقيقية توقف نزيف الدم في غزة. والأخطر من ذلك، أن هذه
العملية الغادرة جاءت بانتهاك صارخ لسيادة دولة عربية عملت منذ البداية على إيجاد
مساحات مشتركة وممكنة لإنهاء المجازر الجارية، محاولةً بحكمة ومسؤولية تجنيب
المنطقة انفجاراً أوسع.
لكن الثور المترنّح، لا يفهم إلا منطق القوة. لا يعترف بأي شراكة، ولا
يحترم أي وسيط. فما إن طرحت مبادرة جديدة قبل يومٍ واحد فقط، كان مصدرها الرئيس
الأميركي الأسبق دونالد ترامب – الحليف الأكبر والداعم لهذا الكيان – حتى أقدمت
المستعمرة على نسف كل شيء، بضربة أمنية تمّ تنفيذها من خلف ظهر الجميع، وبمعلومات
يتم تسريبها الآن من البيت الأبيض نفسه، تقول إن ترامب لم يكن يعلم بتفاصيل
العملية، أو لم يُبلّغ بها كما يقتضي البروتوكول السياسي والأمني.
إن هذا السلوك لا يضع فقط الحلفاء في موقف محرج، بل يكشف إلى أي مدى أصبحت
المؤسسة الحاكمة في الكيان الصهيوني، خصوصًا تحت هيمنة اليمين المتطرف حول
نتنياهو، منفلتة من كل القيود، وخارجة عن أي منطق تحالف أو شراكة. لم يعد الأمر
مجرّد احتلال تقليدي، بل مشروع عنف متواصل يتغذّى من دماء الآخرين ويقتل حتى فرص
السلام.
لم يعد قادة هذا الكيان يمتلكون أدنى شرعية للحديث عن "مستقبل
دولتهم" أو "أمن أبنائهم"، ما داموا قد زرعوا بأيديهم أسباب
نهايتهم في قلوب وعقول كل شعوب المنطقة. لقد تجاوزوا جميع الحدود، وأحرقوا كل
الجسور، حتى مع من كانوا يحاولون ـ رغم الألم ـ إبقاء حد أدنى من الحوار.
إن العالم اليوم مطالب بأن يقف وقفة رجلٍ واحد، لجم هذا الثور الهائج،
وإعادته إلى قفص النهاية، ليس فقط حمايةً لفلسطين، بل دفاعاً عن النظام الدولي
الذي يُهان كل يوم على يد هذا الكيان.
إن استمرار هذا الجنون لا يهدد غزة وحدها، بل يهدد بانفجار شامل في
المنطقة، لن يكون أي طرف في مأمن منه، حتى أولئك الذين ظنوا أن علاقتهم الخاصة
بالمستعمرة الصهيونية ستمنحهم الحماية.
لقد آن الأوان لقول الحقيقة بلا تردد: هذا
الكيان ليس مشروع سلام، بل مشروع نهاية، وكل من يبرّر له أو يسكت عن جرائمه، يساهم
في صناعة كارثة أكبر.