شهد
الأردن حراكًا وطنيًا شاملًا نحو التحديث، بتوجيهات سديدة من جلالة الملك عبد الله
الثاني ابن الحسين، والتي تجلت في رؤى واضحة للتحديث الاقتصادي والسياسي. إن هذه
الرؤى الطموحة لا يمكن أن تكتمل أو تؤتي ثمارها المرجوة إلا بركيزة أساسية تدعمها
وتقوّيها، ألا وهي التحديث الإداري في القطاع العام. وكما أكد جلالة الملك مرارًا،
فإن المواطن الأردني هو محور أي عملية تحديث، ولن يلمس أثر هذا التحديث إلا إذا
انعكس إيجابًا ومباشرة على جودة الخدمات الأساسية التي يتلقاها، وفي مقدمتها
القطاع الصحي والتعليمي.
إن
التحديث الإداري في القطاع العام، بجميع محاوره الطموحة، يسعى لبناء قطاع عام عصري
وفعّال، يستند إلى الكفاءة، والحوكمة، والشفافية، وإعادة تعريف العلاقة بين
المواطن والدولة من خلال خدمات حكومية مرنة وذات جودة عالية. إن هذا التوجه ليس
مقتصرًا على الجوانب الفنية والإدارية، بل يمثل تحولًا ثقافيًا مؤسسيًا يتطلب
تغييرًا في أسلوب التفكير الوظيفي، ويقوم على تبسيط الإجراءات، وتوسيع التحول
الرقمي، وتمكين القيادات، وربط التقييم الوظيفي بالأداء والنتائج، بدلًا من
الأقدمية وحدها. إن هذا هو بالضبط ما نطمح إليه في جميع القطاعات، وعلى رأسها
القطاع الصحي.
القطاع
الصحي: قلب التحديث الإداري الذي يلامس حياة المواطن
لا
يخفى على أحد أن القطاع الصحي يمثل شريان الحياة للمواطن، وأي تحسين في خدماته
ينعكس مباشرة على جودة حياة الأفراد والأسر. إن التحديث الإداري في هذا القطاع
الحيوي ليس مجرد إجراءات شكلية، بل هو تحوّل ثقافي ومؤسسي يهدف إلى تبسيط
الإجراءات المعقدة، وتسريع وتيرة التحول الرقمي، وتمكين الكوادر الطبية والإدارية،
وربط التقييم الوظيفي بالأداء والنتائج الملموسة بدلًا من الاعتماد على الأقدمية
فقط.
كيف
يمكننا تحقيق ذلك في القطاع الصحي؟
* تبسيط الإجراءات
وتوحيدها: كم من الوقت والجهد يهدره المواطن في المستشفيات والمراكز الصحية بسبب
الإجراءات الورقية المعقدة أو المتطلبات المتكررة؟ يجب أن تعمل خطة التحديث
الإداري على رقمنة الملفات الطبية، وتوحيد قواعد البيانات، وتبسيط مسارات تلقي
الخدمة بدءًا من تسجيل الدخول وحتى الحصول على العلاج والخروج، مما يقلل الانتظار
ويزيد من فعالية الخدمة.
* التوسع في التحول
الرقمي: لم يعد التحول الرقمي خيارًا، بل ضرورة ملحة. في القطاع الصحي، يعني ذلك
تطوير أنظمة معلومات صحية متكاملة تربط المستشفيات بالمراكز الأولية وبالصيدليات،
وتمكّن الأطباء من الوصول السريع والآمن إلى سجلات المرضى، وتتيح للمواطنين حجز
المواعيد واستعراض نتائج الفحوصات إلكترونيًا. هذا من شأنه أن يوفر الوقت، ويقلل
الأخطاء، ويحسن جودة الرعاية.
* تمكين الكفاءات الطبية
والإدارية: لا يمكن لأي خطة تحديث أن تنجح دون الاستثمار في العنصر البشري. يجب أن
تركز الخطة على التدريب المستمر للكوادر الطبية والإدارية في القطاع الصحي، وتعزيز
مهاراتهم في استخدام التقنيات الحديثة، وتزويدهم بالأدوات اللازمة لأداء مهامهم
بكفاءة. كما يجب تمكين القيادات في المستشفيات والمراكز الصحية لاتخاذ القرارات
بمرونة أكبر، بما يخدم مصلحة المريض.
* ربط التقييم بالأداء
والنتائج: لضمان تحسين مستمر في جودة الخدمة، يجب أن يكون التقييم الوظيفي في
القطاع الصحي مرتبطًا بشكل وثيق بمؤشرات الأداء الرئيسية
(KPIs) والنتائج الملموسة. على سبيل المثال، يمكن تقييم
فعالية الأطباء والممرضين بناءً على معدلات شفاء المرضى، أو رضا المرضى، أو كفاءة
استخدام الموارد، وليس فقط على عدد سنوات الخدمة. هذا يخلق بيئة تنافسية صحية تشجع
على التميز.
* تعزيز ثقافة الأداء
والمساءلة: يجب أن تُرسخ خطة التحديث الإداري ثقافة عمل جديدة ترتكز على الأداء
المتميز، والمساءلة، والشفافية. عندما يشعر كل فرد في المنظومة الصحية بمسؤوليته
تجاه جودة الخدمة المقدمة، ويدرك أن أدائه سيُقيّم بناءً على ذلك، فإن ذلك سينعكس
إيجابًا على كامل المنظومة.
إن
إشراك المواطنين في تقييم الخدمة العامة من خلال شراكة حقيقية مع مؤسسات المجتمع
المدني والقطاع الخاص، هي نقطة جوهرية، خاصة في القطاع الصحي. فالمواطن هو
المستفيد الأول من هذه الخدمات، وملاحظاته وتطلعاته يجب أن تكون البوصلة التي توجه
عملية التحديث. على نقابة الأطباء، ومؤسسات المجتمع المدني المعنية بالصحة،
والقطاع الخاص، أن تلعب دورًا فاعلًا في هذه الشراكة، لتقديم رؤى عملية ومقترحات
بناءة تخدم تطوير القطاع الصحي.
إن
التحديث الإداري ليس رفاهية، بل هو ضرورة ملحة لبناء دولة حديثة قادرة على تلبية
تطلعات مواطنيها. في القطاع الصحي، هذا التحديث يعني رعاية أفضل، وصول أسهل، وثقة
أكبر بين المواطن ومؤسساته الصحية. إن تحقيق هذه الرؤية الملكية السامية يتطلب
تضافر الجهود والعمل جنبًا إلى جنب بين الحكومة وكافة الأطراف المعنية لضمان أن
يلمس المواطن الأردني الأثر الإيجابي والواضح للتحديث الإداري في قطاعه الصحي، مما
يعزز ثقته بمؤسسات دولته ويسهم في بناء مستقبل صحي مزدهر لأردننا الحبيب.