القسم :
محلي - نافذة على الاردن
نشر بتاريخ :
03/08/2025
توقيت عمان - القدس
2:15:25 AM
الحقيقة الدولية - خاص
ما بين
زيف الشعارات وبهرجة المصطلحات، تترنح الأحزاب الليبرالية العلمانية في العالم
العربي على حافة الفشل، فاقدة للبوصلة، عاجزة عن النفاذ إلى وجدان الشعوب أو
مخاطبة ضمائرها، حيث لم تكن هذه الأحزاب يومًا نتاجًا طبيعيًا للتربة العربية، ولا
بيئتها، بل كانت دائمًا كيانات هجينة، مستنسخة من نماذج غربية، لا تجد في قلوب
الناس موطئ قدم، ولا في عقولهم موطن قبول.
في
الأردن مثلا، تتجلى صورة هذا الإخفاق جليًا في ما آلت إليه أوضاع احزاب ليبرالية
علمانية ويسارية، أصبحت مثالًا يُضرب به حين يُراد الحديث عن العزلة السياسية،
والتوهان الفكري، فها هي الاستقالات تتوالى من صفوفها كأوراق الخريف، لتؤكد أن هذه
الأحزاب لم تفلح لا في استقطاب النخب، ولا في استقطاب الناس، وفشلت فشلًا ذريعاً
بمحاولة اللعب على وتر قناعاتهم، ولم تستطع بأفكارها الموروثة من "الحضارة
الغربية" المستوردة، أن تُقنع عقلًا، أو تُحرّك وجدانًا، أو تبني جسورًا مع
وعي الناس وهمومهم، فظلت كأجسادٍ بلا روح، تنبض بشعاراتٍ لا تسمن ولا تغني، وتدور
في حلقة مفرغة من التنظير العقيم، في زمنٍ تصنع فيه المواقف بالدم لا بالكلام،
وتختبر فيه المبادئ لا تُعلّب على رفوفٍ من الوهم!
لقد ظن
منظرو هذا التيار، عربياً ومحلياً، أن بريق العبارات المستوردة كفيلٌ بسحر
الجماهير، وأن طرح شعارات "الحرية الفردية" و"المساواة
المطلقة" كافية لتفكيك منظومة القيم المتجذرة في وجدان الناس، لكنهم لم
يدركوا أن الأمة التي أنجبت حضارات وثورات وتضحيات، لا تنخدع بالعبارات المنمقة،
ولا تنصاع للأفكار المعلبة التي لا تراعي خصوصيتها، ولا تحترم وعيها
وذاكرتها الجماعية!
وما أعظم
الاختبار حين يكونُ دمًا!
لقد كان
اختبار غزة، وما فيها من مذابح ترتكب في وضح النهار، على مرأى من العالم
"المتحضّر"، كاشفًا فاضحًا، أسقط القناع عن وجه الغرب الزائف، ذلك الغرب
الذي تهاوت معه كلُّ أبواقه في المشرق العربي، الغارق حتى أذنيه في دوّاماتِ صراعٍ
وجوديٍّ حقيقي..
ذلك
الغرب، ومعه ورثته من بين ظهرانينا، الذين يزعمون الدفاع عن الحرية وحقوق الإنسان،
وقفوا صامتين أمام شلّالِ الدمِ الفلسطيني، فتعرّى زيفهم، وسقطت معهم مشاريعهم
الفكرية التي تسوِّقها أدواتهم البائسة في بلادنا.
إن
شعوبنا – رغم ما تعانيه من أزمات – لم تفقد بعد قدرتها على التمييز بين المشروع
الأصيل والدخيل، بين ما ينبع من الأرض ويعبّر عن آلامها وآمالها، وبين ما يُحاك في
صالونات بعيدة ثم يُفرض علينا كدواء مسموم!، لذا، فإن الليبرالية العلمانية
بصيغتها الحالية، ليست إلا طيفًا غريبًا، يتحدث لغة غير لغتنا، ويهتف لشعارات لا
تسكن قلوبنا، ولا تلامس حاجاتنا..
لقد
أخطأت هذه التيارات حين ظنت أن المجتمعات العربية يمكن ترويضها باسم
"الحداثة"، وتطويعها باسم "التنوير"، دون وعي بأن النهضة
الحقيقية لا تكون باستنساخ التجارب، بل ببناء مشروع وطني ينهض على القيم، لا على
محوها، وعلى الهوية، لا على تذويبها!
يمكن القول دون مواربة: إن فشل هذه الأحزاب ليس
سياسيًا فحسب، بل وجودي.. فهي تعيش أزمة بنيوية، نابعة من تناقضها مع الواقع،
وصدامها مع الوعي الجمعي، وإن ما يحدث من انسحابات واستقالات وصراعات عميقة عقيمة
داخل التيارات الليبرالية واليسارية العربية عموما، ما هو إلا التعبير الأخير عن
احتضار مشروع لم يجد له جذورًا في هذه الأرض، ولا بيئة حاضنة، بل ظل مرفوضاً
ملفوضاً، لأن الأفكار التي لا تنبت من رحم الأمة، تبقى غريبة، عابرة، ومحكوم عليها
حكماً بالفناء